وعندما دخل عبد الملك المغرب مع الأتراك ، وانتصر في
معركة
قرب مدينة فاس ، وفر المتوكل من المعركة ، ودخل عبد الملك فاس سنة 983هـ
وولى عليها أخاه أحمد ، ثم ضم مراكش ، ففر المتوكل إلى جبال السوس ،
فلاحقته جيوش عمه حتى فر إلى سبتة ، ثم دخل طنجة مستصرخاً بملك البرتغال
سبستيان ، بعد أن رفض ملك أسبانيا معونته .
أراد
ملك البرتغال الشاب محو ما وصم به عرش البرتغال خلال فترة حكم أبيه من
الضعف والتخاذل ، كما أراد أن يعلي شأنه بين ملوك أوروبا فجاءته الفرصة
باستنصار المتوكل به على عميه وبن جلدته ، مقابل أن يتنازل له عن جميع
شواطئ المغرب
استعان
سبستيان بخاله ملك أسبانيا فوعده أن يمده بالمراكب والعساكر ما يملك به
مدينة العرائش لأنه يعتقد أنها تعدل سائر مراسي المغرب ، ثم أمده بعشرين
ألفاً من عسكر الأسبان ، وكان سبستيان قد عبأ معه اثني عشر ألفاً من
البرتغال ، كما أرسل إليه الطليان ثلاثة آلاف ، ومثلها من الألمان وغيرهم
عددا ًكثيراً ، وبعث إليه البابا بأربعة آلاف أخرى ، وبألف وخمس مائة من
الخيل ، واثني عشر مدفعا ً ، وجمع سبستيان نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع
إلى العدوة المغربية . وقد حذر ملك أسبانيا ابن أخته عاقبة التوغل في أرض
المغرب ولكنه لم يلتفت لذلك .
مسيرة الجيشين إلى وادي المخازن
الجيش البرتغالي :
أبحرت السفن الصليبية من ميناء لشبونة باتجاه المغرب يوم 24 يونيو 1578م ،
وأقامت في لاكوس بضعة أيام ، ثم توجهت إلى قادس وأقامت أسبوعاً كاملاً ،
ثم رست بطنجة ، وفيها لقي سبستيان حليفه المتوكل ، ثم تابعت السفن سيرها
إلى أصيلا ، وأقام سبستيان بطنجة يوماً واحداً ، ثم لحق بجيشه .
الجيش المغربي :
كانت الصرخة في كل أنحاء المغرب : ( أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في
سبيل الله ) ، فتجمعت الجموع الشعبية وتشوقت للنصر أو الشهادة ، وكتب عبد
الملك من مراكش إلى سبستيان : ( إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك ،
وجوازك العدوة ، فإن ثبت إلى أن نقدم عليك ، فأنت نصراني حقيقي شجاع ،
وإلا فأنت كلب بن كلب ) . فلما بلغه الكتاب غضب واستشار أصحابه فأشاروا
عليه أن يتقدم ، ويملك تطاوين والعرائش والقصر ، ويجمع ما فيها من العدة
ويتقوى بما فيها من الذخائر ، ولكن سبستيان تريث رغم إشارة رجاله ، وكتب
عبد الملك إلى أخيه أحمد أن يخرج بجند فاس وما حولها ويتهيأ للقتال ،
وهكذا سار أهل مراكش وجنوبي المغرب بقيادة عبد الملك وسار أخوه أحمد بأهل
فاس وما حولها ، وكان اللقاء قرب محلة القصر الكبير .
قوى الطرفين
الجيش البرتغالي :
125000 مقاتل وما يلزمهم من المعدات ، وأقل ما قيل في عددهم ثمانون ألفاً
، وكان منهم 20000 أسباني ،3000 ألماني ، 7000 إيطالي ، مع ألوف الخيل ،
وأكثر من أربعين مدفعاً ، بقيادة الملك الشاب سبستيان ، وكان معهم المتوكل
بشرذمة تتراوح ما بين 300-6000على الأكثر .
الجيش المغربي : بقيادة
عبد الملك المعتصم بالله ، المغاربة المسلمون 40000مجاهد ، يملكون تفوقاً
في الخيل ، مدافعهم أربعة وثلاثون مدفعاً فقط ، لكن معنوياتهم عالية ؛
لأنهم غلبوا البرتغاليين من قبل وانتزعوا منهم ثغوراً ، وهم يعلمون أن
نتيجة المعركة يتوقف عليها مصير بلادهم ، ولأن القوى الشعبية كانت موجودة
في المعركة وكان لها أثرها في شحذ الهمم ورفع المعنويات متمثلة في الشيوخ
والعلماء .
قبيل المعركة
اختار
عبد الملك القصر الكبير مقراً لقيادته ، وخصص من يراقب سبستيان وجيشه بدقة
، ثم كتب إلى سبستيان مستدرجاً له : ( إني قد قطعت للمجيء إليك ست عشرة
مرحلة ، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي ) فنصحه المتوكل ورجاله أن لا
يترك أصيلا الساحلية ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر ، ولكنه رفض
النصيحة فتحرك قاصدا ًالقصر الكبير حتى وصل جسر وادي المخازن حيث خيم
قبالة الجيش المغربي ، وفي جنح الليل أمر عبد الملك أخاه أحمد المنصور في
كتيبة من الجيش أن ينسف قنطرة جسر وادي المخازن ، فالوادي لا معبر له سوى
هذه القنطرة .
وتواجه
الجيشان بالمدفعيتين ، وبعدهما الرماة المشاة ، وعلى المجنبتين الفرسان ،
ولدى الجيش المسلم قوى شعبية متطوعة بالإضافة لكوكبة احتياطية من الفرسان
ستنقض في الوقت المناسب .
المعركة
في
صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ الموافق 4 أغسطس 1578م وقف السلطان
عبد الملك يحرض الجيش على القتال ، ولم يأل القسس والرهبان جهداً في إثارة
حماس جند أوروبا مذكرين أن البابا أحل من الأوزار والخطايا أرواح من يلقون
حتفهم في هذه الحروب .
وانطلقت
عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذاناً ببدء المعركة ، وبرغم
تدهور صحة السلطان عبد الملك الذي رافقه المرض وهو في طريقه من مراكش إلى
القصر الكبير خرج بنفسه ليرد الهجوم الأول ، ولكن المرض غالبه فغلبه فعاد
إلى محفته، وما هي إلا لحظات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ، ومات وهو واضع
سبابته على فمه مشيراً أن يكتموا الأمر حتى يتم النصر ، ولا يضطربوا ،
وكذلك كان فلم يطلع على وفاته إلا حاجبه وأخوه أحمد المنصور ، وصار حاجبه
يقول للجند : ( السلطان يأمر فلاناً أن يذهب إلى موضع كذا ، وفلاناً أن
يلزم الراية ، وفلاناً يتقدم ، وفلاناً يتأخر ) ، وفي رواية : إن المتوكل
دس السم لعمه عبد الملك قبل اللقاء ليموت في المعركة فتقنع الفتنة في
معسكر المغاربة .
ومال
أحمد المنصور بمقدمة الجيش على مؤخرة البرتغاليين وأوقدت النار في بارود
البرتغاليين ، واتجهت موجة مهاجمة ضد رماتهم أيضاً فلم يقف البرتغاليون
لقوة الصدمة ، فتهالك قسم منهم صرعى ، وولى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة
نهر وادي المخازن ، فإذا هي أثر بعد عين ، نسفها المسلمون ، فارتموا
بالنهر ، فغرق من غرق ، وأسر من أسر ، وقتل من قتل .
وصرع
سبستيان وألوف من حوله بعد أن أبدى صموداً وشجاعة تذكر ، وحاول المتوكل
الخائن الفرار شمالاً فوقع غريقاً في نهر وادي المخازن ، ووجدت جثته طافية
على الماء ، فسلخ وملئ تبناً وطيف به في أرجاء المغرب حتى تمزق وتفسخ .
دامت
المعركة أربع ساعات وثلث الساعة ، ولم يكن النصر فيها مصادفة ، بل
لمعنويات عالية ، ونفوس شعرت بالمسؤولية ، ولخطة مدروسة مقررة محكمة .
وتنجلي
المعركة عن نصر خالد في تاريخ الإسلام ، وعن موت ثلاثة ملوك : صليبي مجندل
وهو سبستيان ملك أعظم إمبراطورية على الأرض آنذاك ، وخائن غريق مسلوخ وهو
محمد المتوكل ، وشهيد بطل وهو عبد الملك المعتصم بالله فاضت روحه ،
وسيذكره التاريخ يفخر بإخلاصه وحكمته وشجاعته وفروسيته .
أسباب النصر
1- آلام المسلمين من سقوط غر ناطة وضياع الأندلس ومحاكم التفتيش جراح لم تندمل بعد ، وهي ماثلة أمامهم .
2-
الخطة المحكمة المرسومة بدقة ، واستدراج الخصم لميدان تجول فيه الخيول
وتصول ، مع قطع طرق تموينه وإمداده ، ثم نسف القنطرة الوحيدة على نهر وادي
المخازن .
3-
المشاركة الفعالة للقوى الشعبية بقيادة العلماء والشيوخ ، مليئة بالإيمان
وحب الشهادة وبروح عالية لتحقيق النصر حتى قاتل البعض بالمناجل والعصي .
4- تفوق المدفعية المغربية على مدفعية الجيش البرتغالي مع مهارة في التصويب والدقة .
5- وكانت خيل المسلمين أكثر من خيل النصارى ويلائمها السهل الذي انتقاه السلطان للمعركة .
6- وكان سبستيان في جانب ومستشاروه وكبار رجالاته في جانب آخر .
.......................................
قال تعالى(فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)