الحمد لله
المقصود
بالمصابيح في الآية : النجوم التي خلقها الله في السماء ، وقد جعل من هذه
النجوم رجوما للشياطين ، كما قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى : (
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) : " خَلَقَ
هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ : جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ ،
وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا ؛ فَمَنْ
تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ : أَخْطَأَ ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ ،
وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ " .
ذكره البخاري عنه في صحيحه (4/107) معلقا مجزوما .
وراجع : "تفسير الطبري" (23 / 508) – "تفسير ابن كثير" (3 / 305) - "فتح القدير" (5 / 363) .
والمقصود
بجعلها رجوما للشياطين أنه يخرج منها شهب من نار ، فتصيب هذه الشياطين ،
ولا يعني جعلها رجوما أنها بذواتها يُقذف بها ، كما قال تعالى : ( إِلَّا
مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) الصافات / 10 .
فالذي يصيب هذه الشياطين من تلك النجوم هي تلك الشهب التي تخرج منها .
ويدل
عليه ما رواه البخاري (4701) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ
بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا قَضَى
اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ
بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ،
يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ : الْحَقَّ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ . فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ ، وَمُسْتَرِقُو
السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ
الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ ،
وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ
، إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ، حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى
الْأَرْضِ ، فَتُلْقَى عَلَى فَمْ السَّاحِرِ ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا
مِائَةَ كَذْبَةٍ ، فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ يُخْبِرْنَا :
يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا ، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا ؟ -
لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنْ السَّمَاءِ ) .
فقوله
في هذا الحديث : ( فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ
أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ ) يدل على أن شهاب
النار يخرج من تلك النجوم فيصيب تلك الشياطين .
قال القرطبي رحمه الله :
"
أي جعلنا شهبها ؛ فحذف المضاف ، دليله : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها
.
وقيل
: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب ، ولا يسقط
الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شيء يرجم به ، من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته
" انتهى .
"الجامع لأحكام القرآن" (18 / 210-211)
وقال ابن كثير رحمه الله :
"
عاد الضمير في قوله : ( وَجَعَلْنَاهَا ) على جنس المصابيح لا على عينها ؛
لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون
مستمدة منها ، والله أعلم " انتهى . "تفسير ابن كثير" (8 / 177)
وقال الألوسي رحمه الله :
"
جعلها رجوماً : يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتها ... تحدث الشهب ،
فهي رجوم بذلك الاعتبار ، ولا يتوقف جعلها رجوماً على أن تكون نفسها كذلك
، بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها ، وهذا كما تقول : جعل الله تعالى الشمس
يحرق بها بعض الأجسام ، فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر ،
وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق " انتهى .
"تفسير الألوسي" (17 / 70)
وقال السعدي رحمه الله :
"
جعل الله هذه النجوم حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض ، فهذه
الشهب التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين " انتهى .
"تفسير السعدي" (ص 875)
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
"
قال العلماء في تفسير قوله تعالى : ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح
وجعلناها رجوماً للشياطين ) : أي : جعلنا شهابها الذي ينطلق منها ، فهذا
من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل .
فالشهب : نيازك تنطلق من النجوم .
وهي كما قال أهل الفلك : تنزل إلى الأرض ، وقد تحدث تصدعاً فيها ، أما النجم فلو وصل إلى الأرض لأحرقها " انتهى .
"القول المفيد على كتاب التوحيد" (1 / 227) .
ثانيا :
هذه
مسألة قديمة ، أثارها الزنادقة في العصور المتقدمة طعنا في القرآن ، وقد
تعرض الجاحظ للرد عليها ، والجاحظ وإن كان من أهل البدعة ، فلا بأس
الاستئناس بكلامه ، في أمر لا يتعلق ببدعته .
قال الجاحظ عفا الله عنه ، في كتابه "الحيوان" (6 / 497-496) :
"
قالوا : زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال : ( وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ
الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين ) ، ونحنُ لم نجدْ
قطُّ كوكباً خلا مكانهُ ، فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع هذا الخلق من
سكّان الصحارى والبحار ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء أو يفَكِّر في خلق
السموات أن يكون يرى كوكباً واحداً زائلاً مع قوله : ( وَجَعَلْناهَا
رُجُوماً للشَّياطينِ ) ؟ .
قيل
لهم : قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه فتضاف تلك الحركةُ إلى
كلِّه فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة ، ومتى فصَل شهابٌ
من كوكب فأحرق وأضاء في جميع البلاد ، فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك
الإحراق إلى الكوكب . وهذا جواب قريبٌ سهل ، والحمد للّه "
انتهى كلامه .
والله تعالى أعلم .الإسلام سؤال وجواب