الممارسات العملية وعلم النفس النمائي:
ترجع
الأفكار حول التربية العامة والحرة الى العهود اليونانية والرومانية، فقد
نشأ مفهوم التربية الحرة في اليونان تدريجياً، وعدت تلك التربية حرة
للتوزيع المتوازن الذي الحقته بالعقل والجسم. وتمثل الهدف االأساسي
للتربية اليونانية في إعداد الفرد في إطار طبيعته الخاصة ليكون مواطناً
للدولة. وأصر أرسطو على أن تمتد التربية من الولادة حتى السن الواحدة
والعشرين. غير أنه رأى أن تمارس التربية التقليدية في بدايات البلوغ
فيتعلم الأولاد القراءة والكتابة والحساب على أساس أن هذه المواد تشكل
المنطلق المبدئي والعميق للدراسات اللاحقة. ولم ينسَ أرسطو أهمية العلوم
السياسية وعلم النفس، فاعتقد ، شأن أفلاطون ، أن دراسة تلك المواد تشحذ
القدرات العقلية.
ونشأت الممارسات التربوية الرومانية إبان صعود
الإمبراطورية الرومانية واستمرت خلال فترات انحطاطها دون أن تحاول تبني
مفهوم التربية الحرة التي تميزت بها الحضارة اليونانية. فلم يهتم الرومان
كثيراً بالتربية البدنية التي كانت بمثابة العمود الفقري للتربية
اليونانية، بل كانوا يهدفون الى صناعة الخطيب الذي يجب أن يكون على إلمام
تام بالفلسفة والقانون والأدب. ولقد تصور الرومان الخطيب رجلاً مثقفاً
وماهراً في صناعة الكلام.
وتشابهت المؤسستان التربويتان اليونانية
والرومانية، على الرغم من الاختلافات الكثيرة التي أشرنا الى بعضها، فقد
كان الأولاد الرومانيون يلتحقون بالمدرسة الابتدائية بدءاً من السنة
السابعة ويستمرون فيها حتى السنة الثانية عشرة حيث يتعلمون القراءة
والكتابة والحساب وبعض جوانب القانون الروماني. وكان الصبيان بعد السنة
الثانية عشرة يرسلون الىمدارس النحو حيث يطلعون على الكتابات النثرية،
والشعر، والمسرحية، ويدرسون التاريخ والجغرافيا والإسطورة. وكادت برامج
مدارس النحو الرومانية تماثل مفهوم التربية الحرة لدى اليونان.
كان
صبيان روما بعد إتمام مدارس النحو في السنة السادسة عشرة، يرسلون الى
مدرسة البلاغة التي تقوم على الاستفادة مما تعلمه الفتى في مدرسة النحو
لإجادة الحوار وإثارة حماسة الجماهير والتغلب على الخصم. وسرعان ما تبلورت
تلك الأساليب، خاصة في عصر انحطاط روما، بصورة قواعد جامدة شملت كل مظاهر
الخطابة.
وبانحطاط روما وظهور المسيحية برزت طرق وأنظمة تربوية
جديدة، فقد أبدلت المسيحية الكنيسة بالدولة، ودفعتها الى إقامة محاكمها
وسجونها وأملاكها والى السيطرة على التربيتين: الدينية والعلمانية. ومارست
الكنيسة سلطتها على التربية حتى مطلع القرن الثاني عشر حيث تراخت قبضتها
على المواطن مشيرة بذلك الى بداية نهاية القرون الوسطى.
هدفت
الكنيسة الى إعداد الفرد لخدمة الله والكنيسة وأخيه الإنسان وروحه ذاتها،
الأمر الذي أبعد عن فكر القرون الوسطى مفهوم التربية الحرة اليونانية، ذلك
لأن الحرية تتعارض مع ما تتطلبه التربية الكنسية في الفرد من تواضع وخضوع.
وتنوعت البرامج المدرسية وتراخت أو تفككت خلال القرون الوسطى وقامت
المدرسة الكاتدرائية الى جانب المدرسة الرومانية التي سبقت الإشارة إليها.
وفي الكاتدرائية كان الأولاد يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون المزامير
وبعض الحساب، وكانت الدروس تشرح باللاتينية التي اعتاد التلاميذ حفظها دون
فهم. أما في المرحلة الثانوية فقد كان الأولاد يعلمون الفنون السبعة بهدف
إعدادهم لدراسة الكتاب المقدس وتفسيره، وشملت تلك الفنون النحو والبلاغة
والجدل (الدراسات الدنيا) والحساب والهندسة والموسيقى والفلك (الدراسات
العليا).
إن تصور الفكر الوسيط للإنسان باعتباره كائناً خلقياً قد
صبغ كل جوانب التربية الأخرى المرتبطة بالمدرسة. فمنعت الرياضة والرقص
والتمارين خشية أن تعمل على تقوية الجسم المثقفل بالخطيئة والغرائز
الحيوانية، وحوربت الرغبات الإنسانية الفردية وأجبر الفرد على الخضوع
للسلطات الدينية. وقد عدلت طرق التربية ومحتواها لتؤدي الى تعليم الإنسان
النظام الديني والخلقي والعقلي، فتحولت التربية من فعالية لخدمة الإنسان
في واقعه الراهن الى إعداده للحياة الأخرى.
ومع بداية تدهور
الكنيسة وإشراقة عصر النهضة عمد الفلاسفة الى إعادة النظر في الواقع
الإنساني فتطلعوا الى الطبيعة وأهملوا السلطة وجعلوا هدف التربية إعداد
الأولاد للسعادة في الحياة وليس في الآخرة.
وامتدت يد الطبيعة
الراحمة الى الفتاة فأعطتها ما أعطت الصبيان من حق في التربية والإعداد
للحياة، الأمر الذي رفع من قيمة المرأة الأم وعدّها المعلم الأول.
راد
كومينيوس (1592 – 1670) الثورة التربوية فطرح مبدأ "التربية وفق الطبيعة"
ودعا الى تجنيب ابن السادسة المدارس التي تعلم باللغة اليونانية أو
الرومانية ونادى بالتعليم الإلزامي حتى السنة الثانية عشرة في مدارس تقدم
علومها باللغة الأم وتهيء غالبية الأولاد للعمل في المجتمع. وقد أكد
كومينيوس أن على النخبة القليلة من المتعلمين أن ينتقلوا في سن مبكرة جداً
الى الجامعة واتصفت دعوته بالشمولية، لأنه قدم مخططاً تربوياً يبدأ
بالطفولة وينتهي بالدراسات العليا، إلا أن الباحثين انتقدوا كومينيوس
لاهتمامه بتربية أبناء الأثرياء دون أبناء الفقراء.
تابع كل من لوك
(1632 – 1704) وروسو (1712 – 1778) الثورة التربوية التي قادها كومينيوس
وأكدا على فكرة إعداد الطفل بصورة ملائمة لحياة الرجولة المنتجة وتحمل
المسؤولية. تكمن مهمة التربية بنظر لوك في صناعة "عقل سليم في جسم سليم"،
لهذا فقد اقترح نظاماً اسبارطياً بدفع الأولاد لطاعة النظام، من طرف،
والانسياق مع العقل من طرف آخر. وقد عدّ لوك عقل الطفل صفحة بيضاء تنطبع
عليها التجارب فتحدد مصير الطفل ومستقبل حياته برمتها،وأولى انتقاء
التجربة المفيدة للطفل أهمية بالغة.
وغاير فهم روسيو لعملية
التربية فهم لوك لها، إذ أنه بسبب خبرته كمعلم، توصل الى نتائج ثورية بصدد
التربية. وأرسى ذلك الفيلسوف في كتابه الشهير "أميل" (1855) الأسس
الجوهرية لما عرف فيما بعد بالتربية التقدمية، ورأى أن على التربية أن
تتلاءم مع حاجات الأولاد وقدراتهم بدلاً من أن تكون استجابة لنزوات الراشد
واستطالة لمعتقداته الخاطئة عن طبيعة الفعل والحياة. فدعا روسو الى تربية
تقوم على الخبرة. "… إحذر أن تستبدل الشيء بالكلمة حيث لا يستحيل إحضار
الشيء … إننا نهب الكلمات قدرة مفرطة … دع دروس الصغرا تأخذ صيغة الفعل لا
القول" . (روسو 1955).
كان روسو، بمعنى ما، رائد علم نفس الطفل،
فقد لاحظ الصغار بعناية، وخبر كيف يسلكون ويتعلمون وحاول ملاءمة التربية
للمستوى النمائي للأولاد. واتبع عدد كبير من المربين المشهورين نمط روسو
في التربية، فعرفوا بأصحاب النزعة الطبيعية في تربية الطفل. وعلى الرغم من
استقلال علم نفس الطفل عن التربية بعد روسو فقد أقام عالم نفس الطفل
الشهير بياجيه بدءاً من عام 1960 حلقات وصل جديدة وقوية بين ظواهر النمو
وفعاليات التربية.
وسرعان ما تبع السويسري بستالوتزي (1746 – 1827)
خطى سلفه روسو. فقد ألهم روسو في كتابه "أميل" من خلفه من المربين فأقاموا
عدداً من المدارس المتركزة حول الطفل. لكن سوء الحظ وضعف الموهبة الإدارية
عند بستالوتزي قد جعلا حياة أفكاره ومدراسه قصيرة تماماً.
جعل
بستالوتزي من مدرسته في "أفردون" نمطاً مدرسياً يحتذى. كانت أفردون مدرسة
داخلية، جمع منهاجها الدقة الى المرونة. وقسم بستالونزي اليوم الدراسي الى
فترتين: صباحية ومسائية تتخللهما راحة عند الظهيرة، وخصص فترة الصباح
لدراسة المواد الصعبة، وترك فترة المساء للمواد العملية السهلة وذلك
لاعتقاده بوضوح الذهن في الصباح وتغيمه الناجم عن التعب في المساء. وأصبحت
مدرسة أفردون مثالاً يجتذبه المبدعون في التربية ويحفزهم على المزيد من
الإبداع التربوي.
طبق بستالوتزي فكرة روسو التي تؤكد ضرورة تعليم
الأولاد بطريق الخبرة والممارسة النشطة وليس بالحفظ، فكان يعرض الأشياء
على الصغار ويمطرهم بالأسئلة آملاً أن تتحقق الفائدة في اكتساب الصغار
العلم والمعرفة. تميزت قيادة بستالوتزي لتلك الدروس بقدرة المربي على
تحريك روح الإبداع والخلق في الأولاد. ولأسئلة بستالوتزي زخميتها المتميزة
على الرغم من تشابه طبيعتها الخارجية مع نظيرتها لمرب آخر. يسأل بستالوتزي
الأولاد مثلاً، ملاحظة النباتات وتصنيفها فيبدعون، ويسألهم الآخرون الشيء
نفسه فينقلب الأمر تعلماً آلياً وحفظاً مملاً.
استمر فعل بستالوتزي
في التربية عبر تلميذه فروبل (1782 – 1852) ذي الأصل الألماني. لم يستطع
فروبل أن يصير معلماً إلا عندما بلغ الثلاثين من عمره، وذلك بسبب نشأة
مضطربة في الطفولة والمراهقة. ولم يختلف حال فروبل عن حال أستاذه
بستالوتزي ، فقد أنشأ عدداً من المدارس أغلقت جميعها ما عدا إحداها التي
انقلبت داراً للحضانة وأعطت فروبل شهرته التاريخية كواحد من أهم رواد
العمل التربوي في العالم.
ظل الكثير من أفكار فروبل ملائماً للزمن
خلال قرن بعد وفاته، ومنها ما بقي كذلك حتى عصرنا هذا. لقد وضع فروبل
أغنيات تنشدها الأمهات لأولادهن وألعاب يمارسنها معهم. ويجسد لعب الأهل مع
أبنائهم وغناؤهم لهم علاقات تبادلية ما زال الكثير من برامج التربية
المعاصرة يدعو الى إقامتها بين الأولاد والأهل. كان الطفل بنظر فروبل
خيراً ووحدة متكاملة، كما كانت التجربة سبيلاً يقود الطفل الى تكوين
مفاهيم مجردة وشاملة وتجسدت التجربة الفروبلية في اللعب، والعمل، وعفوية
العلاقة البشرية، وفي كل ما يعارض فكرة عد الطفل راشداً صغيراً.لقد كان
فروبل يدعو الى تربية طبيعية سرعان ما طورها ودفعها الى الإمام عالم
التطور الفذ شارل دارون. تعدّ نظرية دارون التي نشرت عام 1859، بعد سبع
سنوات من وفاة فروبل، واحدة من أهم الحوادث المؤثرة في تاريخ علم نفس
الطفل، فلقد قادت نظريته عن التطور الى منهج طبيعي بصدد سلوك الطفل والنمو
الإنساني، وقد مكن عدّ الإنسان حلقة دقيقة في سلسلة حيوانية متواصلة، من
دراسة الأطفال كظاهرة طبيعية، وهو أمر ما كان ليحدث لو بقي الطفل مخلوقاً
رفيعاً.
ومن حسن حظ علم نفس الطفل أن اقترن ظهور الداروينية بإحداث
أخرى ساعدت على تصعيد الاهتمام به. وتعود تلك الأحداث لأسباب ترجع لعمل
دارون، ولتطور المعرفة الطبية ، ولبروز الإهتمام الجديد بسعادة الطفل. من
جهة أخرى فقد نقم الناس على استغلال أرباب العمل للأطفال وتشغيلهم بأجور
رخيصة في فترة نموهم، وعلى تنكر الأهل لمأساه الناشئة، وعلى بيعهم لسعادة
أولادهم لقاء دراهم محدودة. أدت تلك العوامل مجتمعة الى ظهور حركة إصلاحية
في منتصف القرن التاسع عشر تهدف الى حماية الأطفال وإسعادهم. وقد وضعت
الحركة المشار إليها أسس مراكز الوقاية اليومية، وإصلاحيات الأحداث،
ومراكز لرعاية الأطفال الرضع للأمهات العاملات، ومؤسسات تعليم متخلفي
العقول، والمضطربين . وبذلك تحطم القيد الذي ضربه الفكر الوسيط على تلك
المؤسسات لتعارضها مع أفكار الخطيئة والعقاب التي شوهت الفكر الإنساني
إبان العصور الوسطى. لقد شجعت نظرية دارون وتطور المعرفة الطبية ثورة
الناس على الفكر الوسيط ودفعتهم لعد الخطيئة عملاً طبيعياً يأتيه إنسان
طبيعي في وضع شاذ. وهذا الأمر أدى الى نشوء الحركات الإنسانية الهادفة الى
تحييد الإنسان، والى إقامة علم نفس الطفل كمنهج يساعد على الفهم الموضوعي
للظاهر النفسية في منظورها التطوري وعلى السيطرة على تلك الظواهر لوقايتها
من الإنسياقات الشاذة.