علم النفس فى الاسلام
قد نقول: انّ علم النفس علم حديث, يتحدّث عن طبيعة النفس, وعن قوانينها, وعن الهيجان, وعن الغضب, وعن الدوافع, وعن الحاجات, وعن أحوال النفس في قوّتها وضعفها, في سموّها وانحطاطها, ونغفل أو نتغافل عن أنّ القرآن الكريم علما للنفس من عند الخالق جلّ وعلا.
انّ أكثر مصطلحات علم النفس, وجلّ قوانينه- في الأعمّ الأغلب- قد وردت بشكل أو بآخر في القرآن الكريم.
فمن الأبواب التي وردت في كتاب اسمه " علم النفس الاسلامي" باب أنواع النفس..هذا يعبّر عنه بالنماذج البشرية, هناك نماذج متكررة, فربنا عزّ وجل بيّن أنواع النفوس,
فهناك نفس مطمئنّة, وهناك نفس لوّامة, وهناك نفس زكية,
وهناك آيات كثيرة تصف هذه النماذج,قال تعالى:
( يا أيتها النفس المطمئنّة. ارجعي الى ربك راضية مرضيّة. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي) الفجر: 27- 30.
النفس المطمئنة هي التي عرفت ربها, واطمأنّت اليه, اطمأنت
الى أسمائه الحسنى, وصفاته الفضلى, اطمأنّت الى وعده, ووعيده, اطمأنت الى جنّته, اطمأنت الى وحدانيّته, اطمأنت الى أنه لا اله الا هو.
وهناك النفس الزكية, الطاهرة من كل دنس, من كل عيب,
من كل صفة خسيسة, النفس الزكية التي تعطي ما عليها, وتأخذ ما لها, دون أن تجحف, دون أن تطغى, دون أن تظلم, قال تعالى:
( قال أقتلت نفسا زكيّة بغير نفس لقد جئت شيئا نّكرا) الكهف: 74
وقال أيضا: ( ونفس وما سوّاها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكّاها.وقد خاب من دسّاها) الشمس: 7- 10.
فالنفس الزكية, فلان زكيّ, أي طاهر, لا يحقد, ولا يحسد, ولا يبغي, ولا يظلم, ولا يتجاوز حدوده, معطاء, خيّر, يحب السّلم, يكره العدوان, يكره البغي والظلم, هذه النفس الزكية ورد ذكرها في القرآن الكريم في آيات كثيرة.
وأمّا النفس التي أثنى الله عليها, وهي نفس عامة المؤمنين, فهي النفس اللوامة, قال:( لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة) القيامة 1- 2.
هذا الذي تكلّم كلمة فحصها, وحاسب نفسه عليها, أيجوز أن أقول هذه الكلمة؟
لعلّها غيبة, لعلّها نميمة, لعلّها تسخط الله عز وجل, فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انّ الرجل ليتكلّم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار".
هذه النفس اللوامة نفس أثنى الله عليها, والمؤمن يجب أن يكون لوّاما, يسأل نفسه دائما, يحاسبها في الدنيا حسابا عسيرا, حتى يكون حسابها يوم القيامة يسيرا, يحاسب نفسه على النظرة, يحاسب نفسه على الكلمة, يحاسب نفسه على أي عدوان معنوي أو مادّي على حقوق الآخرين, هذه النفس اللوامة نموذج آخر ورد في القرآن الكريم.
وهناك نفس حاسدة.. ( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد ايمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم) البقرة: 109, وهي النفس البعيدة عن الله عز وجل, المنقطعة عنه, الواقعة في الشرك الخفي تحسد الناس.
وهناك نفس آثمة تقع فيما حرّم الله, قال تعالى:
( ومن يكسب اثما فانما يكسبه على نفسه) النساء: 111.
وهناك نفس أمّارة بالسوء, قال عز وجل:
( وما أبرّئ نفسي انّ النفس لأمّارة بالسوء الا ما رحم ربي) يوسف: 53.
وثمّة نفس ظالمة, ونفس مخادعة, ونفس شاذّة, ونفس مستكبرة عاتية, ونفس بخيلة.
فاذا قرأ المؤمن القرآن, وجاءت أوصاف هذه النماذج للنفوس البشرية, فليسأل نفسه هذا السؤال الخطير: من أي النماذج أنا؟ من المطمئنة , أم من الزكية, أم من اللوامة, أم من الحاسدة, أم من الآثمة, أم من الأمارة بالسوء, أم من الظالمة, أم من الخادعة, أم من المستكبرة العاتية, أم من البخيلة؟ باب من أبواب علم النفس أن يوصف لك النموذج البشري الذي يتكرّر في كل زمان, وفي كل مكان.
ذكر الحافظ محمد بن نصر المروزي في جزء قيام الليل, عن الأحنف بن قيس:
أنه كان يوما جالسا فعرضت له هذه الآية:
( لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) الأنبياء: 10
فانتبه فقال عليّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم, حتى أعلم من أنا, ومن اشبه؟
لما علم أنّ القرآن قد ذكر جميع صفات البشر, وبين طبقاتهم ومراتبهم أراد أن يبحث عن نفسه, في أي الطبقات هو؟ وفي أي المراتب هو؟ فنشر المصحف, وقرأ فمرّ بقوم:
( كانوا قليلا من اليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون) الذاريات: 17.
ومر بقوم: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) السجدة: 16.
ومرّ بقوم: ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) آل عمران: 134.
ومر بقوم: ( والذين تبوّءو الدار والايمان من قبلهم يحبّون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9.
فوقف الأحنف, ثم قال: اللهم لست أعرف نفسي هاهنا, أي لم يجد هذه الصفات في نفسه, حتى يعدّ نفسه من هؤلاء, ثم أخذ الأحنف السبيل الآخر فمر بالمصحف
على قوم: ( انّهم كانوا اذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون) الصافات: 35.
ومر على قوم يسألون: ( ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنّا نخوض مع الخائضين. وكنّا نكذب بهذا الدّين حتى أتانا اليقين. فما تنفعهم شفاعة الشّافعين) المدثر: 42- 48.
فوقف الأحنف, وقال: اللهم اني أبرأ اليك من هؤلاء, فما زال يقلّب ورق المصحف, ويلتمس في أي الطبقات هو, حتى وقع على هذه الآية:
(وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا عسى
الله أن يتوب عليهم انّ الله غفور رحيم)
التوبة: 102, فقال: أنا من هؤلاء".